حرية الاختلاف وحدود الاحترام: حين يصبح الرفض الهادئ موقفًا أخلاقيًا

ثلاثاء, 12/23/2025 - 09:36
 محمد لغظف محمدالأمين أبتي

في إحدى اللحظات العابرة، تلك التي لا تبدو للوهلة الأولى ذات شأن، طُلب مني أن ألتقط صورة قرب شجرة الميلاد (Christmas Tree)، لا بوصفها شجرة فحسب، بل بوصفها رمزًا، وإيماءة ثقافية، وموقفًا غير بريء من المعنى. اعتذرت بهدوء، لا صراخ فيه ولا ادّعاء طهارة، فقط انسحاب بسيط يحفظ لي انسجامي الداخلي. كان الاعتذار كافيًا ليشعل غضبًا غير متوقّع؛ وُصفتُ بالتخلّف، كأنما الرفض الهادئ صار جريمة فكرية، وكأن الاختلاف بات دليلًا على قصور العقل لا على استقلاله.

لم يكن رفضي إعلان حرب على معتقد غيري، ولا مصادرة لفرح أحد، بل كان ممارسة حقّ أصيل: أن أكون وفيًّا لما أراه معنى لحياتي، وللحدود التي رسمتها لنفسي عن قناعة لا عن خوف. قلت له: أنا أحترم مبدئك، ومعتقدك، وفكرك، واختياراتك، فاحترم لي رأيي، وفكري، ومعتقدي، ومبدئي. الاحترام، في جوهره، ليس اتفاقًا، بل اعتراف متبادل بحقّ الوجود المختلف دون وصاية أو سخرية.

تذكّرتُ، في تلك اللحظة، حوارًا سابقًا مع صديق آخر. كان يحتسي ما شاء من البيرة (Beer)، ولم أعترض، ولم أعبس، ولم أرفع إصبع الوعظ. قلت له فقط: اشرب ما تشاء، لكن لا تحاول إغوائي لأشرب معك. لم يكن ذلك تعاليًا أخلاقيًا، ولا شعورًا بالتفوّق، بل إدراكًا بسيطًا بأن الحرية لا تكتمل إلا حين تقف عند حدود الآخر. أن تختار لنفسك شيئًا، وأن تُرغم غيرك عليه، فاصل دقيق بين الحرية والاستبداد، مهما تلونت اللغة أو تجمّلت النوايا.

إنّ المأساة الحقيقية في زماننا ليست في اختلاف القيم، بل في ضيق الصدر بها. نرفع شعارات التسامح، ثم نضيق بأبسط أشكاله: أن يقول أحدهم “لا” دون أن يُحاكم أو يُنبذ. نحتفي بالتعدّد ما دام يشبهنا، فإذا واجهنا اختلافًا حقيقيًا، سارعنا إلى نعته بالتخلّف أو الرجعية أو الظلامية، كأن الحداثة بطاقة هوية لا موقف أخلاقي، وكأن التقدّم يقاس بمدى استعدادك للتنازل عن ذاتك لا بقدرتك على احترام ذوات الآخرين.

الإنسان الراقي لا يُقاس بمدى تشابهه مع السائد، بل بقدرته على أن يكون مختلفًا دون عدوان، وثابتًا دون صلف، ومنفتحًا دون ذوبان. الرقيّ أن أتركك تكون ما تريد، وأن تتركني أكون ما أريد، دون أن يحاول أحدنا إنقاذ الآخر من نفسه. فالإغواء، حين يُلبس ثوب الصداقة، يصير أخطر من العداء الصريح، لأنه يتسلل باسم الحب، ويقهر باسم القرب.

ليست الشجرة، ولا الكأس، ولا الصورة، هي جوهر الحكاية. الجوهر هو هذا السؤال العميق: هل نقبل الإنسان كما هو، أم نريده نسخة معدّلة على مقاس أهوائنا؟ هل نؤمن فعلًا بحرية الاختيار، أم نستخدمها فقط حين تخدم خياراتنا؟

في النهاية، لم أغضب لأنني وُصفتُ بالتخلّف، بل حزنت؛ حزنت لأن كثيرين لا يرون في الاختلاف ثراءً، بل تهديدًا. ومع ذلك، ما زلت أؤمن بأن أعظم أشكال التحضّر هو أن تقول للآخر: كن كما أنت، وسأبقى كما أنا، وسنمشي معًا دون أن يدوس أحدنا روح الآخر.

ملاحظة:

هذا الموقف لا يعني إنكار النصح ولا تعطيل مبدأ تغيير المنكر، غير أن الوعظ له أهله ومقامه وأدواته؛ يُؤدّى حيث يُطلب ويُجدي، لا حيث يتحوّل إلى إكراهٍ مقنّع يُفرغ الحرية من معناها ويُفسد المقصد الأخلاقي الذي من أجله شُرع.