
على إيقاع قلقٍ متصاعد على الحدود الشرقية الموريتانية المحاذية لمالي، تتحرك نواكشوط هذه الأيام بخطى حذرة لكن حاسمة، في سباقٍ مع الزمن لاحتواء التوتر المتنامي مع الجارة مالي.
فبين الدبلوماسية الهادئة والتحركات الميدانية الصارمة، اختار الموقف الموريتاني أن يجمع بين لغة الحوار ورسائل الجاهزية، في وقتٍ تزداد فيه مؤشرات الانفلات الأمني داخل الأراضي المالية، وتتضاعف المخاوف من تداعياته على السكان الموريتانيين في القرى والمناطق الحدودية.
وفيما يواصل وزير الدفاع الجنرال حننه ولد سيدي، جولاته التفقدية لوحدات الجيش المتمركزة على خطوط التماس، يتزايد الحديث عن تحرك دبلوماسي مكثف تسعى من خلاله موريتانيا إلى نزع فتيل الأزمة، وتأكيد أنها لن تسمح بتحوّل حدودها إلى مسرح للفوضى أو مصدر تهديد لأمنها القومي.
وأوفدت موريتانيا، الأربعاء، وزيرها للشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والموريتانيين في الخارج محمد سالم ولد مرزوك، إلى العاصمة المالية باماكو، حيث سلم رسالة من الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني إلى رئيس المرحلة الانتقالية في مالي العقيد عاصمي غويتا، في خطوة تهدف إلى تبديد أجواء التوتر التي خيّمت مؤخراً على العلاقات بين البلدين الجارين.
وتأتي زيارة ولد مرزوك بعد يومين من اجتماعات تقنية جمعت وفدين من البلدين، بحثا خلالها الملفات العالقة بين نواكشوط وباماكو، وعلى رأسها أوضاع الجاليتين المتبادلتين، والخلافات المرتبطة بملف الهجرة، وإغلاق بعض المتاجر العائدة لتجار موريتانيين في الأراضي المالية. وخلال اللقاء بين الرئيس الانتقالي المالي ووزير خارجية موريتانيا الذي جرى في القصر الرئاسي في باماكو، ناقش الجانبان وضعية التجار الموريتانيين في مالي، والمهاجرين الماليين المقيمين في موريتانيا، وسبل تسهيل تنقل الأفراد والبضائع بين البلدين، إلى جانب تفعيل المشاريع التنموية المشتركة.
وأكد الوزير الموريتاني دعم بلاده للشعب المالي، فيما اقترحت باماكو إعادة تفعيل اللجنة الكبرى المشتركة بين مالي وموريتانيا، وإنشاء إطار دائم للتشاور حول الملفات الثنائية ومتابعة تنفيذ الاتفاقات المبرمة.
وتأتي هذه التحركات الدبلوماسية في سياق توتر متصاعد منذ مطلع العام، عقب موجات من ترحيل المهاجرين غير النظاميين من موريتانيا، شملت مئات الماليين، وهو ما أثار قلق باماكو التي نظمت منذ مارس الماضي عمليات استقبال وإيواء للمرحلين. ووفق وزير الماليين في الخارج والاندماج الإفريقي موسى أغ الطاهر، فقد استقبلت بلاده 13,229 مالياً تم ترحيلهم من موريتانيا ما بين آذار/مارس و14 أيلول/سبتمبر 2025، مؤكداً أنهم حظوا بـ»استقبال كريم ورعاية صحية إلى غاية عودتهم الآمنة إلى مناطقهم الأصلية».
وفي المقابل، عبّر تجار موريتانيون في مالي عن تضررهم من قرارات إدارية أغلقت متاجرهم في عدد من المدن، معتبرين أن الإجراءات «غير مبررة ولا قانونية»، في حين أصدرت السلطات المالية قراراً يمنع استخدام المراعي من قبل الأجانب، واعتُبر موجهاً بالدرجة الأولى إلى الموريتانيين. وتشير تقديرات غير رسمية إلى أن نحو 300 محل تجاري موريتاني تضرر من هذه الإجراءات خلال الأشهر الماضية.
ورغم هذه الأجواء، تؤكد نواكشوط وباماكو على متانة الروابط الإنسانية والاقتصادية بين البلدين، التي تعززت بفعل التداخل الاجتماعي والتاريخي، وبحكم وجود آلاف اللاجئين الماليين في موريتانيا، حيث تتزايد احتياجاتهم للحماية والخدمات وفق تقديرات منظمات إنسانية.
وتُعد زيارة ولد مرزوك الأخيرة امتداداً لسلسلة من الاتصالات السياسية الرفيعة بين الطرفين خلال الأشهر الماضية، تهدف إلى احتواء التوتر وإرساء آلية دائمة للحوار والتنسيق، بما يضمن استقرار العلاقات الثنائية وصيانة المصالح المشتركة على محور نواكشوط – باماكو.
وفي وقت أوفدت فيه موريتانيا وزير خارجيتها محمد سالم ولد مرزوك إلى باماكو لإزالة ضباب التوتر الذي خيّم مؤخراً على العلاقات مع مالي، تزامنت هذه الخطوة الدبلوماسية مع جولة ميدانية لوزير الدفاع الوطني حنن ولد سيدي على عدد من القواعد والمراكز المتقدمة التابعة للكتيبة الموريتانية في القوة المشتركة لمجموعة دول الساحل الخمس، المنتشرة على الشريط الحدودي بين البلدين.
ورافق الوزير في هذه الجولة قائد الأركان العامة للجيوش الفريق محمد فال الرايس الرايس، وقائد أركان الدرك الوطني الفريق أحمد محمود ولد الطايع، وقائد الجيش البري اللواء محمد الحافظ خطاري، وقائد المنطقة العسكرية الخامسة العقيد إدوم عمار، إضافة إلى قائد الكتيبة الموريتانية في القوة المشتركة العقيد عبد الله كلاب.
وأوضح الجيش الموريتاني أن الزيارة كانت مناسبة لتقييم مستوى الجاهزية والقدرات العملياتية للوحدات المنتشرة في الخطوط الأمامية، كما استمع الوزير إلى عرض تفصيلي حول ظروف عمل ومعيشة القوات، وإلى مقترحات تهدف إلى تحسين أدائها وتطوير بيئة عملها بما يضمن تنفيذ المهام الموكلة إليها بأفضل صورة.
ويُنظر إلى هذا التحرك الدبلوماسي والعسكري المزدوج على أنه رسالة تنسيق وطمأنة متبادلة بين نواكشوط وباماكو، إذ تسعى موريتانيا إلى احتواء التوترات الأخيرة المرتبطة بملفات الهجرة والتجارة، بالتوازي مع تعزيز التعاون الأمني والعسكري في المناطق الحدودية التي تشهد نشاطاً متزايداً للجماعات المسلحة.
ويرى مراقبون أن الجمع بين زيارة وزير الخارجية إلى باماكو، وجولة وزير الدفاع على الحدود، يعكس مقاربة موريتانية شاملة تهدف إلى تثبيت الاستقرار على الجبهة الجنوبية، وترميم الثقة السياسية مع الجارة المالية، عبر الحوار الدبلوماسي من جهة، وتعزيز الحضور العسكري الميداني من جهة أخرى.
عبد الله مولود
نواكشوط –«القدس العربي»