
يمرّ عيد الاستقلال في موريتانيا كل عام محمّلًا بالرموز: العلم، النشيد، الخطب الرسمية، ومشاهد الفرح العابرة. غير أنّ خلف هذا المشهد الاحتفالي، يسكن سؤال ثقيل لا يُغادِر الذاكرة الجماعية: ماذا تبقّى من معنى الاستقلال بعد خمسة وستين عامًا؟
على الورق، الدولة مستقلة. أما في الواقع، فكثير من الموريتانيين يشعرون أن شيئًا ما لم يكتمل بعد. فالمواطن الذي يصطدم يوميًا بالرشوة، وببطء الإدارة، وبضياع الحقوق، يصعب عليه أن يرى في الاستقلال أكثر من ذكرى تاريخية تتجدّد، دون أن تتجدّد معها شروط الحياة الكريمة.
الفساد في موريتانيا لم يعد مجرّد انحرافات فردية، بل أصبح، في نظر شريحة واسعة من الناس، ملامح ثابتة في المشهد العام. فساد إداري يُعطّل مصالح المواطنين، ويجعل أبسط الحقوق مرهونة بالوساطة. وفساد تنموي تُعلَن فيه مشاريع كبرى، لكن أثرها يذوب قبل أن يصل إلى القرى والأحياء المهمّشة. أما موارد الدولة، من ثروات بحرية ومعدنية وأراضٍ شاسعة، فتبدو كأنها تتحرّك في مسار موازٍ لحياة المواطن، بعيدة عنه، صامتة عنه.
ومن أكثر المشاهد قتامة أن المناصب كثيرًا ما تُمنَح لا على أساس الكفاءة، بل على أساس القرابة والنفوذ. يتقدّم أصحاب السوابق في الفساد، ويُهمَّش النزيهون، في دورة تُعيد إنتاج الإخفاق بدل أن تكسره. وهكذا يتحوّل الإحباط إلى شعور دائم، لا طارئًا.
نعم، الاستقلال السياسي تحقّق، لكن الاستقلال الحقيقي تصنعه العدالة، وتُثبته الشفافية، وتحميه دولة القانون. وما دام القرار الاقتصادي هشًّا، وما دام المال العام بلا حراسة صارمة، فإن الاستقلال يبقى في الوعي الشعبي ناقص الملامح، باهت الأثر.
نحتفل… لكن كيف نحتفل؟ وما طعم هذا الاحتفال؟
أيّ معنى يحمله يوم الاستقلال لشاب يحمل شهادته ويطرق أبواب العمل فلا تُفتح؟
وأيّ فرح يشعر به ربّ أسرة يرى الأسعار تصعد بينما دخله يهبط؟
هنا يصبح الاحتفال طقسًا رسميًا أكثر منه شعورًا وطنيًا حيًّا.
إلى متى يستمر هذا التناقض بين الخطاب والواقع؟ لا أحد يملك جوابًا جاهزًا. لكن المؤكّد أن الخروج من هذا النفق لا يكون بالشعارات، بل بإرادة سياسية جادّة، وقضاء مستقل، وإعلام حر، ومساءلة لا تستثني أحدًا، وكفاءة تُقدَّم على كل اعتبار آخر.
عندها فقط، قد يتغيّر طعم الاحتفال، وقد يصبح يوم الاستقلال يوم فرح حقيقي، لا ذكرى باهتة تعبر كل عام… وتترك خلفها أسئلة أكثر من الأجوبة. فالأوطان لا تُبنى بالشعارات، بل بالعدل، ولا تحيا بالخطابات، بل بالقيم.
وفي هذه الذكرى، ورغم الألم وطول المعاناة، نتوجّه بالتهنئة الصادقة إلى الشعب الموريتاني الصابر، سائلين الله تعالى أن يرفع عنه البلاء، وأن يطهّر البلاد من الفساد والمفسدين، وأن يبدّل هذا الليل الثقيل بصبحٍ صادقٍ من العدل والنزاهة.
اللهم اجعل لموريتانيا من ضيقها فرجًا، ومن ضعفها قوة، ومن ظلمها عدلًا، ووفّق أبناءها لتحكيم شرعك، فإن بنور الإسلام وحده ينقشع ظلام الفساد، وتستقيم الأوطان، وتعود للأيام طعمها الحقيقي.
وكل عام وموريتانيا إلى خيرٍ وعدلٍ ورشاد.
.jpg)












