
في وقت تتصاعد فيه الضغوط الأمنية والإنسانية على ضفّتي الأطلسي، كشفت تقارير أوروبية وإفريقية عن مشهد مقلق يتشكل بصمت داخل موريتانيا والسنغال، حيث يتخفّى ما يقدر بـ 360 ألف مهاجر غير نظامي في انتظار فرصة العبور نحو جزر الكناري الإسبانية.
ومع تفاقم الأزمات الاقتصادية والمناخية والأمنية في منطقة الساحل وغرب إفريقيا، تتحول الدولتان وبخاصة موريتانيا، تدريجياً، إلى منصّات انطلاق رئيسية لطريق الهجرة الأطلسي، الذي يعدّ اليوم الأخطر والأكثر نشاطاً بين إفريقيا وأوروبا.
وبينما تستبق مدريد وبروكسل هذا المشهد بدعوات لتعزيز التعاون مع نواكشوط، تشير تقديرات أمنية إلى أن عام 2026 قد يشهد موجة جديدة من الهجرة قد تعيد أزمات 2023–2024 إلى الواجهة، ما لم تُتخذ إجراءات عاجلة ومترابطة لاحتواء الخطر المتنامي.
وتستمر موجات الهجرة غير النظامية نحو الأراضي الإسبانية عبر موريتانيا بوتيرة متصاعدة، في وقت تحوّلت فيه البلاد خلال السنوات الأخيرة إلى أهم معبر إفريقي نحو جزر الكناري، بحسب تقارير أمنية وإعلامية إسبانية حديثة.
ووفقاً لمعلومات نقلتها صحيفة «لا غاثيتا» الإسبانية «فإن موريتانيا أصبحت اليوم مركز تجمّع ضخم لما يقدر بـ 360 ألف مهاجر غير شرعي، معظمهم قادمون من بلدان الساحل وغرب إفريقيا، ينتظرون الفرصة لعبور المحيط.
وحذّرت الصحيفة من أنّ عام 2026 قد يشهد «أزمة سوداء» جديدة على شاكلة أزمة 2023–2024، إذا لم تُتخذ تدابير استباقية لاحتواء تدفق المهاجرين.
وبحسب المصدر ذاته، لم تتمكن السلطات الموريتانية خلال العام المنصرم من ترحيل أكثر من 10% من هؤلاء المهاجرين، فيما ما يزال الباقون عالقين في مدن داخلية وعلى طول السواحل الأطلسية، في وضع هشّ يُغري شبكات التهريب ويجعل آلاف الأشخاص «مستعدين للإبحار في أي لحظة».
وتحاول المقاربة الرسمية في نواكشوط ضبط المشهد بالكامل، عبر حملات التفكيك المتكررة لشبكات التهريب، وبالاستعانة بالدعم الأوروبي الواسع في هذا المجال.
وفي الوقت الذي تشير فيه الحكومة الإسبانية إلى انخفاض بنسبة 58% في عدد الواصلين إلى الكناري مقارنة بعام 2024، تكشف التقارير الأمنية عن واقع مختلف: فالمستوى الحالي لوصول المهاجرين ما يزال أعلى بعشر مرات من مستوى 2019، ويفوق أرقام 2018 بأكثر من 1000%، ما يعني أن الانخفاض المسجّل مؤخراً لا يعكس تراجعاً هيكلياً في الظاهرة، بل مجرد هدوء ظرفي لا يلغي حجم الخطر المتنامي.
ويربط التقرير بين هذا الضغط الهجروي الهائل والتدهور الأمني المستمر في منطقة الساحل، خصوصاً في مالي حيث تتفاقم المواجهات المسلحة والانهيار الاقتصادي، إضافة إلى تأثيرات التغير المناخي والجفاف وتراجع النشاط الزراعي، ما يدفع أعداداً متزايدة من الشباب إلى سلوك طريق الأطلسي عبر موريتانيا. وتستأثر جزر الكناري اليوم بنحو 46% من إجمالي المهاجرين الواصلين بحراً إلى إسبانيا، ما يجعلها بؤرة رئيسية لأي توتر مستقبلي.
ويحذّر الخبراء من أن تراكم عشرات الآلاف من المهاجرين داخل موريتانيا، المضاف لغياب حلول سريعة، ولتنامي نشاط شبكات التهريب، يمكن أن يفجّر موجة جديدة من الرحلات البحرية الجماعية، وهو ما يضع مدريد ونواكشوط أمام اختبار صعب.
كما نبهت منظمات حقوقية دولية بينها «هيومن رايتس ووتش»، إلى الظروف القاسية التي يعيشها العديد من المهاجرين في البلاد، وإلى انتهاكات مرتبطة بمراقبة الهجرة والحدود، ما يضاعف من هشاشة الوضع الإنساني.
وفي مواجهة هذا المشهد، دعت صحيفة «لا غاثيتا» الإسبانية إلى تعزيز التعاون بين مدريد ونواكشوط بشكل عاجل، سواء على مستوى مراقبة السواحل ومحاربة التهريب، أو من خلال دعم برامج التنمية ومشاريع الإدماج الاقتصادي التي قد تحدّ من دوافع الهجرة من دول الساحل.
وألحت الصحيفة على ضرورة إيجاد رؤية أوروبية موحّدة لمعالجة الأسباب العميقة للأزمة، وليس فقط التعامل مع تداعياتها.
وتبدو موريتانيا، وهي دولة عبور واستقبال في آن واحد، في قلب معادلة معقّدة تجمع الأمن الإقليمي، والفقر، والتغير المناخي، وضغوط أوروبا المتزايدة.
وإذا ظل الوضع على حاله، فإن التوقعات بحدوث أزمة جديدة في 2026 قد لا تكون مجرد إنذار عابر، بل ستكون سيناريو واقعياً يلوح في الأفق مع كل يوم تتكدّس فيه آمال جديدة على ضفّة الأطلسي.
وفي موازاة ذلك، شهدت السواحل الموريتانية والسنغالية خلال العامين الأخيرين سلسلة من حوادث الغرق المأساوية، بعدما ضلّت قوارب مكتظة طريقها في عرض الأطلسي.
وتشير تقارير أممية إلى أن طريق الكناري بات الأخطر في العالم، حيث يُسجَّل غرق مهاجر واحد من كل خمسة، نتيجة طول الرحلة وسوء تجهيز القوارب.
وتعكس هذه الحوادث صعوبة مراقبة السواحل الموريتانية الطويلة الممتدة على 720 كلم، رغم تعزيز قدرات الرقابة من خلال الطائرات المسيّرة وأنظمة المراقبة التي موّلتها بروكسل ومدريد.
وترى تقارير أوروبية أن موجات الهجرة المتزايدة ترتبط بشكل مباشر بانهيار الوضع الأمني في الساحل، وخصوصاً في مالي التي تشهد توسعاً للفراغ الأمني وتدهوراً اقتصادياً حاداً، فضلاً عن تأثيرات تغير المناخ والجفاف وارتفاع البطالة في دول غرب إفريقيا.
وقد دفع هذا الواقع أعداداً متزايدة من الشباب إلى سلوك المسار الموريتاني، الذي تعتبره شبكات التهريب الأكثر ربحية، في ظلّ اتساع مناطق انعدام الأمن على الحدود بين موريتانيا ومالي.
وتذهب بعض التقارير إلى الربط بين طرق الهجرة وشبكات إجرامية عابرة للحدود، تستغل الضعف الأمني لجني أرباح ضخمة، فيما تستفيد جماعات مسلحة في شمال ووسط مالي من الضرائب والإتاوات المفروضة على تحرك البشر نحو السواحل.
ويثير هذا الوضع قلقاً بالغاً في جزر الكناري، التي ما تزال مراكز الاستقبال فيها تعمل فوق طاقتها رغم التراجع النسبي في أعداد الوافدين.
ومن هنا تتزايد الدعوات داخل إسبانيا لتعزيز التعاون مع نواكشوط، خصوصاً أن نحو 46% من مجمل الواصلين بحراً إلى إسبانيا يصلون عبر الطريق الموريتاني.
وفي ظل غياب حلول جذرية تتصدى للأزمات الاقتصادية والأمنية والمناخية التي تدفع الشباب إلى الهجرة، ومع تزايد نشاط المهربين وضعف قدرات الرقابة، تبدو موريتانيا وإسبانيا مقبلتين على عام حاسم؛ فإمّا أن ينجح التعاون بينهما في احتواء موجات الهجرة، وإمّا أن تتحول توقعات «العام الأسود» 2026 إلى واقع جديد على ضفّتي الأطلسي.
وفي ظل تعقّد المشهد وتداخل أبعاده الأمنية والاقتصادية والإنسانية، تبدو موريتانيا والسنغال على خط تماس مباشر مع أكبر موجة هجرة غير نظامية قد تشهدها المنطقة منذ سنوات: فشبكات التهريب تتسع، والضغوط الأوروبية تتزايد، وأعداد المهاجرين العالقين تتضاعف، بينما تبقى الحلول الرادعة محدودة أمام جذور الأزمة في الساحل وغرب إفريقيا.
وبين هذا كله، يقف طريق الأطلسي جاهزاً لابتلاع المزيد من الأرواح، إن لم تُفعَّل إجراءات استباقية حقيقية تُعيد ضبط المعادلة.
وهكذا يتحدد مسار المرحلة المقبلة بين خيارين: إمّا تعاون إقليمي ودولي يخفف حدة الانفجار، وإمّا موجة جديدة تهدد بتحويل عام 2026 إلى محطة سوداء في تاريخ الهجرة نحو أوروبا.
عبد الله مولود
نواكشوط –«القدس العربي»
.jpg)












