عبد الله ولد سليمان الوزير الذي يملأ مقعد الوزير

خميس, 10/09/2025 - 00:51

عبد الله ولد سليمان ولد الشيخ سيديا، أو كما يحب كثير من الموريتانيين أن يلقبوه بـ«الوزير»، أحد أولئك الرجال الذين تتحدث عنهم سيرهم قبل أسمائهم، وتدلّ عليهم مسيرتهم قبل مناصبهم. سيرة ذاتية غنية بالتجربة والعلم، متدرجة في مدارج الكفاءة، مترسخة في ميدان الاقتصاد والإدارة، ومُضيئة ببصمة فكرية وإنسانية قلّ نظيرها.

ولد في بوتلميت، المدينة التي أنجبت العلماء والوجهاء، فجمع منذ صغره بين أصالة المحظرة وانفتاح المدرسة الحديثة. درس الاقتصاد في جامعة داكار، وواصل دراساته العليا في فرنسا حتى حصل على الدكتوراه بتقدير مشرف جدًا، متنقلاً بين أرقى الجامعات والمعاهد مثل “معهد الدراسات السياسية بباريس” و”المدرسة الوطنية للإدارة” و”جامعة نيس صوفيا أنتيبوليس”. تلك الرحلة الأكاديمية الطويلة كوّنت لديه عقلًا تحليليًا دقيقًا، وأفقًا واسعًا يتجاوز حدود الأرقام إلى إدراك فلسفة التنمية وإدارة الدولة.

لم يكن الوزير من أولئك الذين يهبطون على القطاع من خارجه، بل نشأ فيه وتدرّج بين درجاته، يعرف دهاليزه كما يعرف تفاصيل بيتٍ بناه بنفسه. بدأ رئيسًا لمصلحة في وزارة التخطيط، ثم مديرًا مساعدًا، ثم مديرًا للبرمجة والدراسات، حتى صار وزيرًا للشؤون الاقتصادية والتنمية، ثم وزيرًا للمالية، فتسلّح بخبرة ميدانية نادرة جعلت منه أحد القلائل الذين يمكن أن يقال عنهم إنهم يفهمون الإدارة من الداخل، ويعرفون الاقتصاد بالأرقام والأسماء. هذا التدرج الهادئ والمضني جعله حاذقًا، نبيهًا، يتعامل مع الملفات بوعي وخبرة، ويزن القرارات بميزانٍ من التجربة والمعرفة.

وليس الاقتصاد عنده علمًا جامدًا، بل هو فلسفة في الفعل السياسي، لذلك جمع بين عمق الاقتصادي ودقة السياسي، فكان من القلة الذين يعرفون من السياسة ما يعرفون من الاقتصاد، ومن الاقتصاد ما أهّلهم ليكونوا سياسيين من الطراز الرفيع. يتميز بالاتزان، يبتعد عن الصخب، يقترب من جوهر الأشياء، ويستمد من تكوينه الأكاديمي روح الموضوعية والقياس، فيجعل من الواقعية مذهبًا لا شعارًا.

ومن أبرز ما يميّزه أنه رجل إجماع، لا تكاد تجد منطقته ولا غيرها إلا وهي تُجمع على كفاءته وأهليته. خصومه قبل أنصاره يعترفون له بالمقدرة والنزاهة، والذين عرفوه في ميادين العمل يشهدون له بالجدية والخلق. لا يثير حوله الجدل، ولا يتعالى على أحد، بل يجمع بين التواضع والحزم، وبين الكلمة الهادئة والموقف الثابت. وهو في كل ذلك وجه وطني جامع، لا يضيع في تفاصيل الانتماءات الضيقة، بل يتسع صدره للكل، ويقدّر الرأي المخالف دون أن يتنازل عن قناعاته.

ومع هذا كله، ومع دراساته المعمقة في أعرق الجامعات الفرنسية، لم تنطفئ فيه جذوة الأدب، ولم يغِب عنه سحر الشعر وأيام العرب. فهو يحفظ أشعار القدماء، ويطرب لقصائد المحدثين، ويعرف من أخبار الفتوة والشجاعة ما يجعل حديثه أقرب إلى مجلس أدب منه إلى جلسة إدارة. يجمع بين الحساب والمنطق، وبين النغم والمعنى، فتراه إذا تحدث، تتوازن في لغته الصرامة والخيال، والعقل والعاطفة.

في زمنٍ تتعدد فيه الأسماء وتقلّ الكفاءات، يظل عبد الله ولد سليمان ولد الشيخ سيديا من طينة الرجال الذين يملؤون مقاعدهم بجدارة. لا تراه متكلفًا في حضوره، ولا مدعيًا في علمه، بل بسيطًا في مظهره، عميقًا في فكره، متوازنًا في خطواته. إنه رجل دولة حقيقي، خبر الميدان وأدرك مفاتيح الإدارة، عاش التجربة من القاعدة حتى القمة، وظلّ محافظًا على سموّ السلوك ونقاء السيرة. وباختصار، فإن هذا الرجل يملأ المقعد… علمًا، وأدبًا، وهيبةً.
التاه ولد أحمد