موريتانيا وفلسطين.. عقود من المناصرة وسنوات من التطبيع

ثلاثاء, 11/21/2023 - 09:17

في نهاية خمسينيات القرن الماضي وفي ذروة الرفض العربي الاعتراف باستقلال موريتانيا، حاولت رئيسة وزراء إسرائيل السابقة غولدا مائير مصافحة المختار ولد داداه الرئيس المؤسس لموريتانيا، خلال تدشين جسر في العاصمة العاجية أبيدجان.

ولكن رد ولد داداه كان قاطعا وحاسما "لن أصافح هذه اليد الملطخة بدماء الأبرياء في فلسطين، فنحن عرب، سواء قبِلنا العرب أو رفضونا".

وخلال العقود اللاحقة، ظل الموقف ذاته يحكم الرؤية الموريتانية رسميا وشعبيا، وبذلت حكومة ما بعد الاستقلال جهودا مضنية من أجل القضية الفلسطينية، فجعلت منها عنوان معركة في الغرب الأفريقي، واحتضنت النضال الداعم لها، وآوت أعدادا من الفلسطينيين.

الدكتور سيدي اعمر شيخنا ( الجزيرة نت )

ولد شيخنا: الدولة لم تكتف بالتضامن النظري وقطعت علاقاتها الدبلوماسية مع بريطانيا وواشنطن بعد النكسة (الجزيرة)

 

الرفض من المهد

الواقع أن الموقف الرسمي الموريتاني الداعم للقضية الفلسطينية، كان سابقا حتى على نشأة الدولة الموريتانية، فقبل استقلال البلاد بسنوات من الاستعمار الفرنسي، وقف النائب الموريتاني في البرلمان الفرنسي أحمدو ولد حرمه ولد ببانا سنة 1956 ضد احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية، معلنا بشكل واضح موقفه الرافض لقيام دولة إسرائيل.

وخلال السنوات الأولى لاستقلال البلاد (1960)، أخذ الدعم الموريتاني لفلسطين بُعدا رسميا غير عابئ بالتحديات الجمّة حينها، ومثّل رئيس الجمهورية المختار ولد داداه رأس حربة في التوجه النضالي ضد الاحتلال، رغم ما كان يعانيه وقتها من ظروف سياسية واقتصادية بالغة السوء.

ويوضح الباحث والمؤرخ سيدي أعمر ولد شيخنا -للجزيرة نت- أن ولد داداه رفض أي مساومة على موقف موريتانيا من دعم فلسطين، حتى وهو في أمسّ الحاجة للتضامن، بعد رفض العرب قبول البلاد عضوا في جامعة الدول العربية خلال مؤتمر "شتوره" في لبنان.

بيد أن الدولة لم تكتف بموقف التضامن النظري فقط، بل رفعت السقف أكثر من ذلك عندما اتخذت في 1967 خطوة متقدمة في أساليب الرفض، وقطعت علاقاتها الدبلوماسية مع بريطانيا والولايات المتحدة بعد نكسة يونيو/حزيران، يقول ولد شيخنا.

اعلان

ورغم حداثة النشأة ومحدودية الموارد، فقد لعبت موريتانيا في هذا الملف دورا أكبر من حجمها في ذلك الوقت، خاصة على مستوى القارة الأفريقية التي كان ولد داداه يحظى بعلاقات متوازنة مع معظم قادتها البارزين.

ويرى الباحث سيدي محمد ولد أحمد زروق أن الدور الأكبر الذي قام به المختار ولد داداه كان دبلوماسيا، خاصة خلال فترة توليه رئاسة الاتحاد الأفريقي ما بين يوليو/تموز 1972، وحتى يوليو/تموز 1973.

ويضيف أن ولد داداه استطاع إقناع دول أفريقية عديدة بقطع علاقاتها مع إسرائيل، وفتحت البلاد صدرها رحبا للفلسطينيين، فاستقبلت نواكشوط جالية فلسطينية كبيرة من بينها قادة مطاردون من حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، وضباط شرطة وتجار وعائلات كثيرة، ومنحتهم جوازات سفر.

كما قررت الحكومة الموريتانية بث إذاعة صوت فلسطين من موريتانيا عبر أثير الإذاعة الرسمية لسنوات، وظل جواز السفر الموريتاني لعقود يحمل عبارة تقول، إنه يدخل كل بلدان العالم إلا "الكيان الصهيوني" وجنوب أفريقيا بسبب نظام الفصل العنصري حينها، وفق زروق.

سيدي محمد زرّوق

سيدي زرّوق: الرئيس الأسبق المختار ولد داداه نجح في إقناع دول أفريقية عديدة بقطع علاقاتها مع إسرائيل (الجزيرة)

 

فاصل التطبيع

وفي النصف الأخير من تسعينيات القرن الماضي، وعلى وقع خلافات بدا أنها متصاعدة بين فرنسا ونظام الرئيس الموريتاني الأسبق معاوية ولد الطايع، قرر الأخير طي الصفحة التي فتحها الرئيس المختار ولد داداه، وولى وجهه شطر تل أبيب كونها "الطريق الأنسب لتقديم أوراق اعتماده" لدى واشنطن.

أحيط مسلسل التطبيع بسرية كبيرة خاصة في بدايات تشكّله حين فُتح مكتبان لرعاية المصالح في سفارتي إسبانيا في كل من تل أبيب ونواكشوط سنة 1996، قبل أن يُرفع مستوى التمثيل الدبلوماسي إلى مستوى السفراء في 1999.

 

وحسب وزير الخارجية الموريتاني الأسبق أحمدو ولد سيدي أحمد، فإن العلاقات مع إسرائيل بدأت "في ظرف كانت فيه موريتانيا تعاني عزلة دبلوماسية، حيث سُدت أمامها أبواب هيئات التمويل والمساعدات الدولية".

ويضيف الوزير في بيان له أنه "شجعها آنذاك توجّه عدد من الدول العربية نحو إقامة علاقات مع إسرائيل، وانطلاق مسار برشلونة ومؤتمر مدريد واتفاقية أوسلو".

استمرت العلاقات الدبلوماسية بين موريتانيا وإسرائيل نحو عقد من الزمن (من 1999، حتى 2009)، وتعاقب 4 رؤساء على الحكم خلال هذه الفترة.

ومن بينهم ولد الطايع الذي بدأها، والرئيسان إعلي ولد محمد فال الذي حكم البلاد خلال فترة انتقالية بين عامي 2005- و2007 بعد الانقلاب على ولد الطايع، وسيدي محمد ولد الشيخ عبد الله -حكم البلاد من يوليو/تموز 2007، حتى أغسطس/آب 2008- واللذين حافظا على العلاقات دون تطوير ولا تعزيز.

أما الرئيس الرابع فهو محمد ولد عبد العزيز الذي أعلن في يناير/كانون الثاني 2009 عن تجميد العلاقة الموريتانية الإسرائيلية بعد قمة غزة بالعاصمة القطرية الدوحة.

 

 

رفض شعبي

وطيلة السنوات التي استمرت فيها تلك العلاقات، كان الغضب الشعبي يتصاعد، وتسارعت وتيرة المحاولات الانقلابية على نظام ولد الطايع، وزُج بعشرات العلماء والأئمة في السجون بعد خطبهم ومحاضراتهم الرافضة للتطبيع، وأبرزها فتوى العلامة الشيخ محمد الحسن الددو التي وقّعها أبرز علماء البلد، ونصت بشكل صريح وقوي على تحريم التطبيع.

ورغم استمرار نظام ولد الطايع في التطبيع، فإن بعض المقربين سياسيا منه يرون أنه لم يكن مقتنعا به، وأن تسييره للملف يؤكد ذلك، فقد أجاب وزير زراعته حينما راجعه في مشروعات يريد الإسرائيلون تنفيذها في المجال الزراعي قائلا "لا نريد لتلك العلاقة أن تتجاوز ما هي عليه الآن، ولن نرتب عليها أي شيء آخر".

ولم يقتصر الرفض الشعبي على المظاهرات والفتاوى، بل أخذ أبعادا أخرى حين صفع الطبيب الزايد ولد الخطاط أحد أعضاء وفد طبي إسرائيلي على الوجه، خلال زيارته لأكبر مستشفيات العاصمة نواكشوط.

كما رفض الشاعر والصحفي الموريتاني مولاي عبد الله تسلّم جائزته -بعد فوز قصيدته التي كتبها حول الطفلة هدى غالية التي بقيت وحيدة على شاطئ غزة- بعد أن لاحظ حضور السفير الإسرائيلي الاحتفال الذي سيتسلّم فيه جائزته.

في 2008 ازداد الضغط الشعبي لإنهاء حالة التطبيع "الشاذة" كما وصفها رئيس البرلمان الموريتاني حينها، مسعود ولد بلخير، خاصة بعد الانقلاب على الرئيس ولد الشيخ عبد الله ووصول نظام جديد خشية مواصلته نهج سلفيْه.

 

 

واستجاب النظام العسكري بقيادة الرئيس محمد ولد عبد العزيز في نهاية السنة ذاتها، واستُدعي السفير الموريتاني، ثم أُمهل سفير الاحتلال 48 ساعة لمغادرة نواكشوط، معلنا إغلاق السفارة.

وفي خطوة رمزية، أُرسلت جرافات لفتح الشارع الذي يمر أمام السفارة، الذي أغلقته لسنوات، في مشهد أثار ارتياحا واسعا لدى الموريتانيين، وزاد شعبية الرئيس القادم حينها عبر انقلاب واجه رفضا سياسيا واسعا.

في الوسط زوج الرئيس الموريتاني مريم الداه فاضل تضع الكوفية على منكبيها خلال مسيرة ضد الحرب على غزة ( الجزيرة)

 

وعلى خطى سلفه حافظ الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني على قطع العلاقات، وقاد حزبه الحاكم حملة للدعم السياسي والتبرعات المالية، وشارك في وقفات أمام الأمم المتحدة وسفارات غربية في نواكشوط، كما شاركت لأول مرة زوجة الرئيس الحالي في مسيرة داعمة للمقاومة، وعُيّن ممثل لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) في موريتانيا.

ورغم الموقف الرسمي الموريتاني القوي في الرفض الذي يجد حاضنة سياسية وارتياحا شعبيا كبيرين، فإن جهات إقليمية ودولية مارست ضغوطا على البلاد من أجل العودة للتطبيع.

ويرى محللون أنه وفي هذا الوقت -الذي يحيط فيه التطبيع بموريتانيا، وتزداد فيه الضغوط الأوروبية والأميركية- على القوى الموريتانية القيام بخطوات تصعيدية ضد أي تقارب مع إسرائيل.

كما عليها تكثيف الجهود المؤيدة للموقف الرسمي المتقدم، والإشادة بقوته وشموليته من تغريدات للرئيس، إلى تدوينات وتصريحات لوزرائه، ثم قيادة الحزب الحاكم والأغلبية للمظاهرات والتبرعات بعد عملية "طوفان الأقصى".

ورغم كل ما يتم الحديث عنه، فإن الدعم الذي تحظى به القضية الفلسطينية اليوم والإجماع عليها والتحرك من أجلها، يعدّ حالة متقدمة لم تصلها رسميا موريتانيا منذ الاستقلال.

 

المصدر : الجزيرة