في يوم عيد الجيش الوطني هذا ما قاله الرئيس المختار ولد داداه عن طريقة تأسيسه

أحد, 11/25/2018 - 10:13

لقد كانت موريتانيا إبان حصولها على الاستقلال في نهاية 1960م الإقليم الوحيد مما كان يعرف بإفريقيا الغربية الفرنسية الذي لا يمتلك أية نواة جيش ، وسبق أن ذكرت أن الموريتانيين لم يكونوا جميعا يخضعون لنظام الخدمة العسكرية وفق الشروط المطبقة على المنحدرين من المستعمرات الأخرى في إفريقيا الغربية الفرنسية ، فالموريتانيون السود في حوض النهر هم وحدهم الذين كانوا يؤدون هذه الخدمة باعتبارهم جزءا لا يتجزأ من "الرماة السينغاليين " ، أما البيضان فلم يكونوا يخضعون للخدمة العسكرية بل إنهم كما يقول الفرنسيون "يعتبرون مثل الطوارق أسياد الصحراء وهم من فرط ألفتهم للمساحات الواسعة وتعلقهم بحريتهم لا يستطيعون البقاء في ثكنات مقفولة ولن يقبلوا العيش فيها ، وفضلا عن ذلك فإنهم لو أجبروا على الخدمة العسكرية مثل السود لكان علهيم أن يخضعوا لإمرة الأطر العسكرية الزنجية من ضباط وضباط صف ، وهو ما لن يقبلوه وعليه يجب ألا يدفعوا للاختلاط بالرماة السود .."

وبما أن غالبية الموريتانيين بداة رحل فقد أنشأ الفرنسيون وحدات خاصة من الجمالة عرفت من قبل في جنوب الجزائر وشمال النيجر وفي السودان الفرنسي "مالي " للقيام بدور الشرطة البدوية . ويتعلق الأمر بسرايا بدوية ، تحدثت عنها من قبل . وتضم كل سرية منها المكونتين العرقيتين يقود كل منهما ضابط شاب برتبة ملازم في الغالب ، ويتولى مبدئيا قيادة مجموع هذه السرايا البدوية نقيب .

لقد كانت كل واحدة من هاتين المكونتين أحادية العرق ، فإحداهما تتشكل من "الرماة السينغاليين " أي من السود المنحدرين من مختلف المستعمرات بمن فيهم موريتانيو الحوض النهر إن وجدوا ، ولا أعرف ما إذا كان لوحدات هذه المكونة اسم خاص ، أما المكونة الثانية فقد كانت تدعى كوميات وهي مشكلة من البيضان .

وكانت هذه الوحدات بالنسبة للشرطة البدوية ملائمة بوجه خاص لظروف حياة جزء كبير من بلادنا ، فهي أفضل بما لا يقاس من أية وحدات عسكرية أو شرطية من النمط الكلاسيكي ، حتى تلك التي تتنقل بالسيارات عابرة للصحراء ، ولذا كانت الصيغة التي تبناها الفرنسيون عندنا في مجال الشرطة البدوية صيغة ملائمة ، غير أن بعض هؤلاء الفرنسيين لم يكن يشمئز من تعزيز الفروق بين مكونتي الشعب الموريتاني ، أو أن يظهروا أن الموريتانيين لا يشكلون شعبا واحدا ، وأن على جميع الموريتانيين أن ينهج معهم نفس السبيل ، حتى في الجانب العسكري ..إلا أن التجربة أثبتت بسرعة بعد الاستقلال ولحسن الحظ ، أن أصحاب تلك الرؤى قد أخطأو أو أحبوا أن يخطئوا ...فتلك التجربة أثبتت أن البيضان يمكن أن يكونوا جنودا مثل سائر الناس ، وأن يطيعو قادتهم السود ، وأن يعيشوا في الثكنات ، وأن يلبسوا الزي العسكري وأن يتآخوا مع أصدقائهم السود .

ومهما تكن النتيجة فإننا لم نكن وقت الاستقلال نمتلك أية نواة للجيش ، وكان علينا أن ننشئها بالكامل من لا شيء ، وفي هذا السياق تخطر ببالي ذكرى لها دلالتها ، فقد كان علي قبيل إعلان الاستقلال أن أتخذ مرافقا عسكريا على غرار ما فعل جميع نظرائي في المنطقة وهذا المرافق العسكري الذي يتعين أن يكون وطنيا ، يجسد أكثر من غيره الوظيفة الجديدة لرئيس الدولة ، وحسب تشريع غير مكتوب يتعين على المرافق العسكري أن يكون ضابطا برتبة ملازم على الأقل ، إلا أنه لا يوجد ضمن العناصر الموريتانية بالجيش الفرنسي أي ضابط ، وإنما يوجد بعض ضباط الصف القلائل ، وبإشراك مستشاري العسكري الفرنسي الرائد افرانسوا بسلاي انتهى بي المطاف إلى أن عثرت على رائد متقاعد في الجيش الفرنسي هو الرائد جالو ذو الأب الموريتاني والأم السودانية "المالية " ، الذي أكمل حياته المهنية بوصفه سودانيا ، فكان أول مرافق عسكري لي .

وخلال فترة الاستقلال الداخلي التي سبقت إعلان الاستقلال طلبنا من الحكومة الفرنسية أن تساعدنا على إقامة جيش بأخف حجم وأقل تكلفة فلم هذا التحديد ؟ لأننا فقراء وكان علينا أن نبني من فراغ أسس دولتنا "الأمة الوليدة . فلم تكن لدينا الرغبة ولا المقدرة على تكريس ما لدينا من وسائل محدودة للنفقات العسكرية ، كما لم يكن بوسعنا ولا نود كذلك إهمال رمز سيادة مثل الجيش وأحد وسائل ممارستها الأساس ، إنه مأزق حقيقي كان علينا أن نبحث عن مخرج منه ، لقد تصرفنا كما تصرفت جميع الدول الناشئة المنبثقة عن المجموعة الفرنسية الإفريقية ، فبمساعدة فرنسا ودعمها أنشأنا جيشنا الفتي الذي عهد بتأطيره بصفة كاملة إلى الفرنسيين إذ لم يكن لدينا قيد التكوين سنة 1960م سوى تلميذين ضابطين هما امبارك ولد بون مختار ، وفياه ولد المعيوف .

قامت حكومتنا بالتعاون مع الحكومة الفرنسية بتكوين الوحدات الأولى من جيشنا الفتي الذي أنشئ بموجب قانون 25 نوفمبر 1960م .

فقد أعطت الحكومة الموريتانية منذ 2 فبراير 1961م موافقتها على اكتتاب وتدريب  600 رجل يشكلون الوحدات الأولى لجيشنا الوطني ، يتولى الجيش الفرنسي تكوينهم وإحالتهم إلينا .

وفي هذا الإطار تم خلال الاجتماع الفرنسي الموريتاني المنعقد في 29 يوليو 1961م تحديد برنامج هذا التحويل ، وتم الاتفاق في هذا الاجتماع على تسليمنا الوحدة الأولى بالنعمة 25 سبتمبر .

أما قيادة أركان القوات المسلحة فقد تم إنشاؤها في 2 من يناير 1962م وفي مايو 1964 وضعتُ الحجر الأساس لأول مدرسة للدرك الوطني وأول مركز لتكوين الجيش الوطني .

وفي مضمار الحديث عن إنشاء جيشنا الوطني لا بد من التنويه بالدور الذي لعبه بسلاي رئيسي السابق وصديقي في بئر أم اكرين الذي سبق الحديث عنه ، فقد عاد إلى موريتانيا وأصبح في 1957م مستشارا عسكريا للوالي في عهد القانون الإطاري ، وبعد تكوين الحكومة الأولى التي كنت نائب رئيسها أصبح بسلاي أول رئيس لديواني العسكري ، وعلى هذا الأساس قاد بحكم وظيفته هذه أولى وحدة في هذا الجيش خلال مسيرة الاستقلال في 28 نوفمبر 1960م .

وكان على الحكومة أن تنظم العديد من مسابقات الاكتتاب بغية تكوين الدفعات الأولى من الضباط الوطنيين الذين يتعين عليهم أن يحلوا تدريجيا محل الفرنسيين في مجال التأطير ، وكان النجاح في هذه المسابقات دوما حليف شبان مدرسين يبعثون لمتابعة تكوين سريع في مدارس خاصة أعدتها فرنسا لتكوين الأطر العسكريين لصالح الدول المنبثقة من المجموعة الفرنسية الإفريقية ، وخلال سنوات عديدة لاحظنا أن مواطنينا السود لم يكونوا يترشحون لتلك المسابقات إلا نادرا ، وبعد إجراء تحقيق في الموضوع تبين أن هذا الامتناع لا يعود إلا إلى عدم اهتمام شبان الضفة بالمهنة العسكرية ، خلافا لمواطنيهم الناطقين بالحسانية ، ولتحاشي أن يكون جيشنا الفتي مؤطرا من قبل الأخيرين وحدهم ، عمدت الحكومة إلى تشجيع بعض ضباط الصف السود من بين أولئك الذين أحيلوا إلينا من الجيش الفرنسي ، أي ممن كان لديهم مستوى ثقافي مقبول يخولهم أن يصبحوا ضباطا فعليين . وقد فسر بعض المراقبين الأجانب الذين يجهلون الأسباب الحقيقية لهذه الوضعية تفسيرا خاطئا ومغرضا . لقد أرادوا أن يروا فيها نتيجة سياسة تمييز اتجاه الموريتانيين السود ، يظنون أن الحكومة أرادت إبعادهم تلقائيا عن القيادة العليا للجيش !!! وكان من نتائج هذه الوضعية غير المقصودة والمؤسفة أن غالبية الضباط السامين حتى انقلاب 1978 كانوا من أصل بيضاني .

أُذَكّر بأن حزب الشعب الموريتاني قد اهتم منذ مؤتمره التأسيسي في ديسمبر 1961م بجيشنا الوليد فالتوصيات النهائية للمؤتمر تنص على إنشاء جيش شعبي ، وقد قرر المؤتمر الأول الاعتيادي الذي عقد في مارس 1963م دمجه في الحزب ، وفي يوليو من نفس السنة حدد المكتب السياسي الوطني صيغ ذلك الدمج القاضية بأن يشارك الجيش في تنفيذ الخطة الإنمائية . فبل أن يكون "جيش ثكنات " يتعين عليه أن يصبح عنصرا نشطا في تحقيق المشاريع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وخاصة لصالح عالم الريف ، غير أن الجيش يومئذ لا يزال في وضع جنيني كان ينبغي إذن البدء بتطويره وتنظيمه وبكلمة واحدة بإنشائه ، وهو ما كان يتطلب عدة سنوات .

وأعاد المؤتمر الثالث المنعقد في يناير 1968م طرح هذه المسألة وطلب من المكتب السياسي الوطني والحكومة الإسراع بعملية الدمج هذه وفي ما بين 21 و25 فبراير 1969م ترأست أول ملتقى لأطر الجيش ملتقى كان عليه أن يقدم الصيغ العملية للاندماج وعند افتتاحي ذكرت بأن الجيش " ... هو أفضل مدرسة للمواطنة ولا يمكن لاهتمامه أن ينحصر في الصيغة العسكرية بل عليه أن يكون ذا طابع اقتصادي واجتماعي وثقافي في بلد فقير نام مثل بلدنا يسعى إلى إنشاء دولة أمة من شبه العدم . ففي سياقنا الخاص لا ينبغي للجندي أن يهمَّش أو يهمِّش نفسه كما هو الحال بالنسبة لنظيره في الديمقراطيات الغربية القديمة التي تجاوزت طور النمو ، تلك الدول التي لا مناص لنا من أن نصاب بتأثيرها لأنها تكوّن أطرنا الوطنية ، وتمنحنا في الوقت نفسه أطرا وفنيين ومعدات عسكرية مختلفة ، أي أنها ترسخ في أذهاننا حتمية نماذجها وطرائقها وبناها الملائمة جدا لها ولكنها في الحقيقة غير ملائمة لحقائقنا الذاتية ...ففي سياقنا ، على الجندي أن يكون مناضلا نموذجيا ..."

نسقه ورتبه وصاغه من مذكرات الرئيس المختار ولد داداه الأستاذ عبد المجيد ولد إبراهيم

"نوافذ"