أول أخطاء النظام : التساهل مع أكلة المال العام

جمعة, 09/23/2016 - 11:55
سيد الأمين باب

إن مضمون ومقتضيات الأحكام  التي صدرت بحق سجناء الخزينة ، يقول:  إنه علي من استطاع أن ينهب مالا كثيرا من خزينة الدولة عليه أن يفعل ، وليحذر من نهب القليل حتي لا يسجن ثلاث سنوات ويغرم بعشرة آلاف أوقية ، فالسجن سنتين أو ثلاثة ثقيل علي من نهب أقل من مليار أوقية ،أما من نهب المليار أو مايقاربه  فلابأس بحبس سنتين أو ثلاث والتغريم بعشرة آلاف أوقية ، بل وحتي بدفع جزء من المبلغ المنهوب . هذا ليس كلام معارض من الموالات ، وليس كلام موالي من المعارضة .

إنه كلام الواقع والحق يجب أن يقال تكليفا ، إن لم يأبي الوضع ، فقد أحسن وأجاد وأفاد العلامة الجليل الشيخ عبد الله بن بي ، حينما كان يحضض علي الدوام ، ويؤكد ،ويجدد ،ويبين في كل مناسبة .. ضرورة عدم الفصل بين الأحكام الكليفية والأحكام الوضعية .

 

كنت ... ومازلت ...لكن...

 

كنت ومازلتأول أخطاء النظام : التساهل مع أكلة المال العام 

 

معجبا بفخامة الرئيس محمد ولد عبد العزيز . كنت ومازلت مشجعا ومواليا ومناصرا وداعما لسياسة فخامة الرئيس محمد ولد عبد العزيز ، منبهرا بفكره السياسي وإرادته القوية وشخصيته الفذة . لقد وقعت في أسر ولد عبد العزيز عندما علمت أنه هو من كان وراء كل صغيرة وكبيرة تحدث في سياسة البلد طيلة ثلاث سنوات : من يونيو2005 إلي أغشت 2008  مما يعني أنه كان حاضرا بقوة قبل تلك الفترة .

 

وعندما جاء صاحبنا إلي السلطة أعجبتني حربه علي الفساد ، ومصداقها في الفكر  إعلانه تجديد الطبقة السياسية ، وأعجبتني حربه علي الإرهاب ، ومصداقها في الواقع تأمين حوزة البلاد الشاسعة والمترامية الأطراف من تسلل المتسللين إرهابيين كانوا أو تجار مخدرات إلا  ما كان استدراجا . أعجبتني عنايته بروح الأمة لباسها وتاجها (الدين الإسلامي ) ـ ولن استرسل في التفاصيل ـ أعجبتني عنايته بالبنية التحتية ، وماسلف من البنية الفوقية ،أعجبني إنشاءه وتأسيسه للركائز الضرورية لقيام دولة عصرية ، كضبط الحالة المدنية ،وضبط الحدود ، والإصرار علي الحضور الفاعل والمميز في السياسة الدولية والإقليمية بشتي اهتماماتها....

 

لذلك كنت أول من دافع عن الرئيس محمد ولد عبد العزيز ، عندما كتبت في الأسبوع الثاني علي وصوله للسلطة 6\ أغشت \ 2008 مقالا بعنوان "إلي المجتمع الدولي أهل مكة أدري بشعابها" وتوالت بعد ذلك كتاباتي تأييدا ودعما ومساندة لمساره السياسي.

 

كنت أول من دافع عن فخامة الرئيس في الفيس بوك ، بصورتي الحقيقية وباسمي الصحيح ، ومازلت، ويمكن التحقق من ذلك بالعودة إلي تاريخ ما قبل 12 يونيو 2012  وما بعده .لم يحرجني  مرة ـ كما أحرج الكثيرين ـ الدفاع عن  النظام ، لأنه نظام أقتنعت به ، ورئيس أعجبت به ، ولم أخش في ذلك لومة لائم ، ولا شم شاتم ،ولا وصف واصف بالنفاق أو بغيره ، وكان كل من يقترب مني بتلك الأوصاف يعود إلي نفسه محرجا .. وكنت دائما أخشي حدوث ما يحرجني ، لأنني أعلم أنه لابد أن يحدث ، كنت أقول في نفسي ـ مثلا ـ ماذا لو أعاد ولد عبد العزيز العلاقات مع إسرائيل ، سأكون في حرج شديد هل أدافع عن الرئيس في ذلك ،أم أسكت عنه ؟ أم أنكره علنا كما أيدته عند قطعها علنا؟.

 

لم يكن يحرجني في الدفاع عن الرئيس ونظامه المميز غير ما قد يحدث من أخطاء لايمكن السكوت عليها ، إلا من منافق معلوم النفاق.

 

وكنت أقول في نفسي إذا أحدث  ما أكره ، فإن كنت في منصب معتبر ، وجب علي أن اسكت وأنكر الأمر في قلبي فقط، وألا أقوم بما يظهر أنه عيب أو منكر، بل و أدافع عنه أحيانا إن لم يكن خطأ جسيما....

 

وإن لم يكن هناك ما يمنعني من شجبه وإنكاره قمت بذلك ،  لكن لا علي سبيل ونهج وطريقة المعارضة ، لأني لست معارضا......بل مازلت كما كنت من أكثر الموالات صدقا في موقفه، وربما ذلك هو ما دفعني مع انتفاء الموانع إلي أن أنتقد بشدة الأحكام الصادرة بحق سجناء الخزينة.

 

مازلت من الموالات حقا : لكني أحب قول الحق ولو علي نفسي

 

إن الأحكام التي صدرت عن الغرفة الجزائية بمحكمة ازويرات قبل أسبوع والمتعلقة بسجناء الخزينة ، المتهمين بنهب أموال طائلة من خزينة الدولة ، كانت أحكاما خفيفة جدا إلي درجة ، أنه يمكن أعتبارها أحكاما تشجيعية ، وليست ردعية .

 

إن هذه الأحكام المخففة بموجب مقتضيات المادة 437 من قانون العقوبات ، قد خففت إلي حد كبير من شأن محاربة الفساد الذي يعتبر السمة الأبرز لنظام فخامة الرئيس محمد ولد عبد العزيز. مما يشي بالقول إن هناك وراء هذه الأحكام من يريد الإطاحة بالرئيس . والأشد علي أنفسنا نحن المدافعون عن إرادة الرئيس ـ وعن طموحاته ونظرته للمستقبل وما ينبغي أن يكون ـ ضد تشكيك المشككين ، وحسد الحاسدين ، هو خروج أكثر هؤلاء المجرمين اللصوص أكلة مال: الأيتام والمعوقين والأرامل والمعوزين  والمرضي والعاطلين عن العمل....بعد سبعة أشهر وعودتهم إلي المجتمع وكأنهم أبطال لا يشق لهم غبار!! ، زعماء تقرع لهم طبول الفرح بمقدمهم ،وتطلق الزغاريد في السماء احتفاء بنشوة الانتصار علي المظلوم الذي لا حول له ولا قوة ،المغلوب علي أمره العاجز عن إعادة حقه ، أو حتي البوح بأنه مظلوم وكأن الأمر لا يعنيه!!.

 

إنها خيبة أمل كبيرة  للأسف!!

 

لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو سؤال الحائر المصدوم الذي فوجئ بمالم يتوقع ... كيف حصل هذا الأمر؟ من كان وراء صدورهذه الأحكام ؟! ، ولماذا اختارت المحكمة استفادة هؤلاء اللصوص  من مقتضيات المادة المذكورة لتخفف عليهم ، وهم السوس الذي ينخر جسم المجتمع والدولة منذ أمد بعيد ؟! وهم أعداء الدولة ، وأعداء الرئيس ، وأعداء المجتمع في الحاضر وفي المستقبل، كيف يتم التعامل معهم بهذه الطريقة المهينة للضمير الجمعي لهذا المجتمع الكريم ؟!!.

 

إن قراءة متمعنة موضوعية لهذه الأحكام ، تفرض علينا الإقرار بأن وراءها واحد من الأثنين التاليين:

 

1 ـ آ ـ إما أن يكون الرئيس نفسه هو من كان وراء مثل هذه الأحكام ، ويترتب علي ذلك أن يكون الرئيس قد أخطأ خطأين كبيرين هما : أنه تدخل في  قضية معروضة أمام القضاء وهذا مخالف لأعراف الديمقراطية  التي تفرض مبدأ فصل السلطات ،وبذلك يكون قد مس أسس الديمقراطية . والخطأ الثاني هو أنه تعامل بسهولة زائدة مع المفسدين  وكأنه يشجعهم علي فعلتهم ، وهم أول أعدائه منذ وصوله للسلطة  وهذا الخطأ أكثر جسامة من الأول لأنه يمس أساس سرحه السياسي الذي شيد بجدارة وسرعة منقطعة النظير . لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو لماذا أقدم الرئيس عمدا علي مثل هذه الأخطاء الجسيمة ؟.

 

ب ـ ليس هناك منطقيا غير دافع واحد يجعل الرئيس يتعمد مثل هذه الأخطاء ، وهذا الدافع هو رغبة الرئيس في أن يمسك الشعب الموريتاني من كل أطرافه وبكل أطيافه لفائدة ما سيستجد من أمور في المستقبل ، حيث يكون بهذه الأحكام المخففة!! قد لبي رغبة مجتمع متخلف طالما ناداه في كل زيارة بإطلاق سراح أبناءه المسجونين علي خلفية أكلهم مبالغ طائلة من المال العام ، فعندما يعود اللصوص بسرعة غير مثقلين بإعادة المبالغ الكبيرة التي نهبوا، سوف يقوم أهلوهم بنصرة الرئيس وحينها ستتحقق مآربه !!.وأما ما يلاحظ من عدم العدالة في تطبيق الأحكام علي متهمين بتهمة واحدة فقد يعود إلي تقييم قوة وتأثير أهالي اللصوص.!!. ما يزعجني في هذا الأمر هو الخوف من أن تكون هذه الأحكام علامة علي إحساس الرئيس بالضعف ، وهو الرئيس الذي تعتبر قوة شخصيته إحدي أهم الصفات المطلوبة لحاكمنا في هذه المرحلة.

 

2 ـ وإما أن يكون القضاء ( المحكمة نفسها) هي التي وراء هذه الأحكام المخففة ، لأنها هي صاحبة القرار الأول والأخير في كل ذلك ، نظرا لاستقلاليتها وعدم التأثير عليها  ولا التدخل في شأنها من أي جهة كانت ، مستفيدة في ذلك من تلك الحرية الكبيرة التي أصبح البلد ينعم بها ، ورأينا كيف أنه كانت لها (أعني الحرية) انعكاسات سلبية في مجالات مختلفة : كالإعلام ، وحقوق الإنسان ...وليس القضاء بمنئي عن ذلك التأثير ولا محصنا ضده . لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا اختارت المحكمة النظر في محتوي المادة 437 لتخفف علي هؤلاء المجرمين اللصوص ؟! .

 

المنطق يقول إنه ليس هناك دافع يمكن أن يدفع بالمحكمة إلي اختيار هذه الأحكام التي ناقضت مقصدها ، إلا أحد الأمرين التاليين :أ ـ إما أن المحكمة قد قامت بما يجب ، ومعني ذلك أن الأحكام لم تناقض مقاصدها ، فقد يكون ما ذكر عن المتهمين ليس بتلك الدرجة ، فمثلا المتهم الذي ذكر الإعلام أنه سرق ما يقارب المليار لم يسرق إلا القليل ، ولذلك لم يكلف بإعادة ما نهب مستفيدا من تخفيف المادة المذكورة ،وفي المقابل الذين حكم عليهم بتسديد مبالغ كبيرة ، كانوا قد نهبوها حقا ، ومن العدل أن يعيدوها ، ولذلك لا يكون في أمر هذه الأحكام ما يريب على خلاف ما تظن الناس ، وعلينا جميعا أن نطلب الصفح والمعذرة من الجميع.

 

ب ـ وإما أن المحكمة تسر بالعداوة للرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز ، وتريد الإطاحة به إن لم يكن من السلطة فمن قلوب المساكين والفقراء والموضوعيين الذين كانوا يرون فيه القائد الذي لن تكل إرادته ولا تمل من الحرب علي الفساد وتنقية المجتمع وخصوصا النخبة السياسية من المفسدين ومصداق ذلك التوجه ،أنه أعلن ضرورة تجديد الطبقة السياسية .

 

وتَلفُ المحكمة هذا العداء في ثوب الخوف علي الرئيس مما يثير عضب قبائل المعتقلين ، ولذلك اختارت أن تستند إلي إعمال مقتضيات المادة 437 رميا لعصفورين بحجر واحد  : التغطية علي تلك النوايا المبيتة...وفي نفس الوقت  توفر الحماية القانونية  لاختيارها تلك الأحكام.

 

أما عدم حصول العدالة في إنزال تلك الأحكام حسب ما نشر عن المتهمين عند اعتقالهم وعند الحكم عليهم**فمرده في تلك الحال إلي تفاهمات أو إلي تقدير لقوة وشوكة أهالي المعتقلين !!.

 

إنه لمحزن جدا ومخيب للآمال أن يكون هذا أو ذاك هو من كان وراء مثل هذه الأحكام ـ إن كانت كما نراها غير عادلة ـ ومع ذلك نلتمس العذر لمن كان وراء إصدار هذه الأحكام سواء كان الرئيس أو كان القاضي بغض النظر عن الأسباب ، طالما أن هذا الرئيس من هذا الشعب ، وهذا القاضي من هذا الشعب .هذا الشعب أو المجتمع الذي تتفشي فيه العصبية بأبشع مظاهرها من الأسرة إلي القبلية ، حتي إن الأقارب لتجتمعون  أحيانا عن بكرة أبيهم ، المثقف منهم وغير المثقف لنصرة أحد أقاربهم قد ظلم نفسه وظلم غيره ، وكان ظلمه واضحا جليا لا غبار عليه ، ويأيدونه ويدعمونه علي ظلمه وجوره ، ويهددون بالدفاع عنه وعن ما كسب ، ولو كان سيفضحه في الدنيا قبل أن يصليه النار في الآخرة .

 

رأيت ذلك في ظلم الفرد الواحد ، ورأيته في ظلم المجتمع كله : أما ظلم الفرد الواحد فقد تعرضت بنفسي لظلم قاس بكل المقاييس ، مهين إلي أقصي حد لكرامة الإنسان ، حينما سرق مني حاكم مقاطعة توجنين السابق عبد القادر ولد الطيب  القطعة الأرضية الوحيدة التي آمل أن أسكنها ، واستعان في سلبها مني ـ خشية أن تكون لي وساطة ترد إلي حقي ـ ببعض أقاربه النافذين في الدولة ، وأقول بعض لأني عرفتهم جميعا مكرها ، لكني لم أجد لبعضهم أي أثر ولا أي دور في المسألة وهؤلاء منهم ضابط سامي برتبة عقيد ، إما لأنهم تعففوا عن النزول إلي هذا المستوي الدنيء ، وإما لأن الحاكم الجائر كان في غني عن دعمهم مكتفيا ، بعقيد آخر متهور ، ومدير أمن لم يفهم جيدا معني (انصر أخاك ظالما أو مظلوما)  ليترك ...مسكينا  مشراد بلا مأوي يحمل صبيته إلي حيث لا يدري ، ..ومع ذلك يفتخر ويفتخروا !!.

 

أما ظلم المجتمع فقد ، حصل بنهب المال العام من قبل الكثيرين ، بعضهم فضحه الله بفعل جهود مفتشية الدولة ، مثل سجناء الخزينة (....) فمنذو أن اعتقلوا ، لم يقم  الرئيس بزيارة لبلد ينتمي إليه أحدهم إلا وصعق ومن حوله بأصوات عالية منادية وتطالب الرئيس البطل الشهم الزعيم الخالد ، بإطلاق سراح فلان سرق مليار أو مايقاربه من المال العام ، الذي فيه حق للسائل والمحروم والمسكين ......ولا يمكن  لأحد أن يقول إنه سمع مرة في تلك الجموع المستقبلة للرئيس  : من عامة الناس ، ولا من أهل المعني خاصة ، ولا من المثقفين والمتتبعين للشأن السياسي ، الذين ينتقدون  وينكرون ، ويفصلون في الأمور السياسية ولديهم رأي فيها ،ولهم فيها دور من ينادي ردا علي تلك الصيحات ، لا،لا،لا ،لا تطلق سراحه ، بل اترك السجن الطويل يكون خير رادع له !!.

 

إن مجتمعا هذا حاله ، لن ينجب  موظفا سليما من كل عيب  رئيسا كان ، أو قاضيا ، وفي هذه الحال بالذات ، فحسب رأيي ـ  عملا بالقاعدة الفقهية (مراعاة أخف الضررين ) التي أصبحت أصلا لكثير من قواعد المقاصد الشرعية ـ أفضل أن يكون الرئيس هو من كان وراء تلك الأحكام المخففة علي المجرمين ،وأن يكون القاضي مجرد مأمور ، لا أن يكون القاضي هو صاحب  هذه الأحكام بدون تأثير، لأن ذلك يعتبر في هذه الحال غاية في السوء وفي الخطورة ،وإن كان الأمر يحتاج إلي توضيح.فالواضح أن هذه الأحكام إن لم يكن هناك ما يعللها غير التخفيف علي السجناء ، فإنها لا تخدم الرئيس ،ولا تخدم المجتمع، ولا تخدم الدولة.لنا أن نقول ذلك ،وحسبنا الله ونعم الوكيل.